ملحم بركات… موسيقار الفن يرحل موجوعا في غفلة الوطن
بقلم/جهاد أيوب
هو صاحب الموهبة المتوهجة..
هو خامة صوتية متدفقة..
هو يمتلك طبقات صوتية عالية ومؤدية باقتدار..
هو واحة من العطاء الموسيقي، والغنائي، والتمثيلي والكلام، والانتقاد…
هو جدلية، رافضة، ومحبة، وعاشقة، وصاخبة يعطي رأيه ويدير كبريائه دون أن يلتفت إلى الوراء.
إنه ملحم بركات صاحب التطرف في مواقفه، ولا يعرف المجاملة إلا إذا احب، حينها يلغي كل العيوب، ويصب مائه في خانة الدفاع عن من احب، أو العكس إذ لا مجال للحلول الوسط في مواقفه، ويصب جام غضبه دون تردد على هذا وذاك.
ملحم بركات تصارع مع الموت، وتصارع مع البقاء في الفن متميزا، وتصارع مع الافضلية كي يبقى في الواجهة زعيما وحاكما في مملكته، ولا ضرر إن مد صوته لسانه السليط إلى مملكة غيره، لا يخاف من خطأ ارتكبه، ولا يكترث من حرب قرر خوضها، البعض اعتبره مجنونا في فنه وصراعاته ورأيه، وأخر اعتبره طيبا، أما أنا كاتب هذه السطور فاعتبره صديقا مزاجيا بامتياز، صافيا بانسانيته، ثائرا كلما شعر بالخطر بقترب منه ومن وطنه.
عرفته في كل الظروف، عرفت اطباعه، وجادلته دون الوصول إلى تغيير رأيه، وبصراحة دائما في رأيه السياسي يصيب، ولكن في رأيه ببعض الزملاء لا يصيب دائما لكنه يكشف جحودهم علنا.
ملحم بركات مواليد 15 اغسطس 1945 في بلدة كفر شيما، والده كان يفرض عليه الاستماع إلى عبد الوهاب وكبار الفن اللبناني امثال وديع الصافي وصباح، تتلمذ على وتر التراث وعشقه، في المدرسة طلبوا منه الغناء صغيرا، وذات سن ال 15 قرأ مقالة في جريدة، فلحنها حتى اصبحت اخباره تكتب في الصحف والمجلات، وسار مع رفيق دربه عصام رجي الذي سبقه إلى الشهرة، ودخل مدرسة الاخوين رحباني دون ان ينال فرصته الكبيرة، وتركهم مهاجرا إلى دنيا الاسطورة صباح فاحتضنته اكثر من 12 سنة كأخ وابن في منزلها، وارتبط بعلاقة عاطفية مع شقيقتها، وذات مساء، وفي منزل المطربة صباح كان يدندن”المجوز الله يزيدو” فسمعتها صباح، وفرضتها فرضا في مسرحيتها، مقتنعة بأن هذه الاغنية ستكون حديث المواسم وستشهر ملحم، وبالفعل هذا ما حدث، والاهم انها أي صباح اصرت ان يقدم لها اكثر من لحن في اسطوانتها الشهيرة ” صباح وكبار الملحنين” إلى جانب محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وبليغ حمدي ومحمد الموجي وفيلمون وهبي وهو الشاب الواعد.
وذات رحلة من مصر إلى بيروت عبر الخطوط الجوية اللبنانية علم بوجود عبد الوهاب فذهب إليه ليسمعه لحن “صدفني كحيل العين” لصباح، اعجب عبد الوهاب باللحن قائلا:”آدي الجنون الجميل”..فرد ملحم:”هذا اللحن لملحم بركات وستغنيه صباح…تذكر هذا الاسم جيدا ولن تنساه ابدا، وسيحدث انقلابا في الشرق”، وانسحب عائدا إلى مكانه!
ملحم بركات الذي خنقت موهبته الحرب الاهلية اللبنانية 1975، واعاقت تفوق مسيرته الغنائية هاجر إلى الاردن، ومن ثم إلى سورية حيث كانت الانطلاقة الاوسع والاهم، في سورية نام داخل سيارته المتواضعة بعد كل وصلة غنائية صغيرة في ” الشيرتون “، كان انذاك طوني حنا الاكثر بريقا وشهرة وثراء، وفي خلوته داخل سيارته خرج لحن ” على بابي واقف قمرين “، هذا اللحن الاجمل، والابقى والاروع احدث ضجة في الغناء العربي وتحديدا لازمة ” واواوا”، وحينها تعاقدت ادارة الفندق معه، وانتقل من السيارة إلى جناح خاص، وبدأت الشهرة الاوسع والاقوى والراسخة، وثبتها باسلوب غنائي لا يقدر عليه غيره، وتفوق حتى اصبح مدرسة.
ذات يوم ذهبت لاجراء حديثا مطولا معه في منزله الخاص بعد ان انتشر انه اصبح مفلسا ماديا، استقبلني بالترحاب وبالمحبة، وحينما سألته عن ما يشاع حول افلاسه، انتفض غاضبا، وطلب مني الخروج من منزله، فرفضت الخروج لأني مدعو من قبله للغداء، حينها قال:”انا اخرج وانت خليك بالبيت”!
فعلا تركني مع ابن شقيقته، وغاب لساعتين، وليعود محملا بالماكولات الشهية، حينها قلت له لن اتناول الطعام إلا إذا اكملنا الحوار، وبالفعل اكملناه، وصرح تصريحه الخطير الذي نشر في الصفحة الاولى من جريدة “البلد”:” انا سأحارب أميركا إذا قررت قتال المسلمين، ومحاربة الاسلام”..ومن ثم اصر ان يسكب البازيلا والرز والكبه والفتوش شخصيا…
ملحم بركات اول من اتصل معزيا بالاسطورة صباح، استقبلته في العاشرة من صباح اليوم الثاني على رحيلها، فبادر بالقول:”هذه المرأة اهم فنانة على الارض، صنعت مجدا لا ينضب ولولاها ما في فن متطور في لبنان والعرب، لو على ايامها كانت الفضائيات كانت نامت واشتغلت تحت اقدامها…كانت تقول الناس بتحبني ورح تدفني إذا متت، وهيك صار، وهي سبقتني وانا لاحقها.”
ملحم بركات الصوت المندفع الثاقب، والواثق، هو الممثل الكاريزما المقتدر، وهو الملحن البصمة التي شكلت امتدادا لمدرسة فيلمون وفريد الاطرش حتى غدت بصمة شعبية خاصة بملحم.
ملحم الذي غيبه الموت ظهر أمس مات اكثر من مرة، مات بسبب ما يعانيه لبنان من حروب، ومن ثم فساد في السياسة والمجتمع والمال والدولة كما كان دائما يقول لي كلما التقينا، ومات بسبب الزعبرات العربية التي قيل فيها الربيع العربي، وشتت الوطن الكبير، ولكن الحرب والتأمر في سورية كانت الاكثر إلاما واوجاعا عليه…
ملحم الصارخ، الرافض، المحب، العاشق، الغني بمواقفه رحل قبل فجر الجمهورية، وقبل ام تشرق الشمس في سورية، وقبل ان يكمل ما كان يأمل ان يحققه في الفن، رحل دون ان يسجل اسطواناته، واكتفى بأرشيف حفلاته، رحل دون ان يفرح بأولاده واولاد رفاقه وبشباب الفن، نعم رحل قبل أن يكبر لكون الشيب غمر فؤاده وعمره لكنه ترجم الفرح والشباب والقيمة والجنون والكبرياء والوطن والحب والعشق بصوت لن نبعده عن مسامعنا، وبالحان شكلت ذاكرة خصبة وغنية بالنغم الشرقي، وبإسم سنردده دائما هو الفنان ملحم بركات…هكذا كبارنا يسقطون في غفلة الوطن الصغير و انقسامات الوطن الاكبر!!
#رحيل_ملحم_بركات
#جهاد_أيوب